الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ومنهم من حملها على إرادة المعنيين على أن أولهما هو المقصود والثاني مندرج بالتبع وهذه طريقة البيضاوي وصاحب الكشْف ومنهم من عكس وهي طريقة الكَواشي في تلخيصه.وعلى الوجهين فالمراد ب {الإنسان} في الموضع الأول والموضِع الثاني معنى واحد وهو تعريف الجنس المرادُ به الاستغراق، أي إذا أذقنا الناس، وأن الناس كفُورون، ويكون استغراقًا عرفيًا أريد به أكثر جنس الإنسان في ذلك الزمان والمكان لأن أكثر نوع الإنسان يومئذٍ مشركون، وهذا هو المناسب لقوله: {فإن الإنسان كفور} أي شديد الكفر قويه، ولقوله: {بما قدمت أيديهم} أي من الكفر.وإنما عدل عن التعبير بالناس إلى التعبير بالإنسان للإيماء إلى أن هذا الخُلق المخبر به عنهم هو من أخلاق النوع لا يزيله إلا التخلق بأخلاق الإسلام فالذين لم يسلموا باقون عليه، وذلك أدخل في التسلية لأن اسم الإنسان اسم جنس يتضمن أوصاف الجنس المسمى به على تفاوت في ذلك وذلك لغلبة الهوى.وقد تكرر ذلك في القرآن مرارًا كقوله: {إن الإنسان خُلق هلوعًا} [المعارج: 19] وقوله: {إن الإنسان لربه لَكَنُود} [العاديات: 6] وقوله: {وكان الإنسانُ أكثر شيء جدلًا} [الكهف: 54].وتأكيد الخبر بحرف التأكيد لمناسبة التسلية بأن نُزِّل السامع الذي لا يشك في وقوع هذا الخبر منزلة المتردد في ذلك لاستعظامه إعراضهم عن دعوة الخيْر فشبّه بالمتردد على طريقة المكنية، وحرف التأكيد من روادف المشبه به المحذوف.والإذاقة: مجاز في الإصابة.والمراد بالرحمة: أثر الرحمة، وهو النعمة.فالتقدير: وإنا إذا رَحِمْنا الإنسان فأصبناه بنعمة، بقرينة مقابلة الرحمة بالسيئة كما قوبلت بالضراء في قوله: {ولئن أذقناه رحمة منّا من بعد ضراء مسته} في سورة فصّلت (50).والمراد بالفرح: ما يشمل الفَرح المجاوز حَد المسرة إلى حد البَطر والتجبر، على نحو ما استعمل في آيات كثيرة مثل قوله تعالى: {إذ قال له قومه لا تَفرح إن الله لا يحب الفَرِحين} [القصص: 76] لا الفرح الذي في مثل قوله تعالى: {فَرِحين بما آتاهم الله من فضله} [آل عمران: 170].وتوحيد الضمير في {فرح} لمراعاة لفظ الإنسان وإن كان معناه جمعًا، كقوله: {فقاتلوا التي تبغي} [الحجرات: 9] أي الطائفة التي تبغي، فاعتدّ بلفظ طائفة دون معناه مع أنه قال قبله {اقتتلوا} [الحجرات: 9].ولذلك جاء بعده {وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم} بضميري الجماعة ثم عاد فقال: {فإن الإنسان كفور}.واجتلاب {إذا} في هذا الشرط لأن شأن {إذا} أن تدل على تحقق كثرة وقوع شرطها، وشأن {إن} أن تدل على ندرة وقوعه، ولذلك اجتلب {إنْ} في قوله: {وإن تصبهم سيئة} لأن إصابتهم بالسيئة نادرة بالنسبة لإصابتهم بالنعمة على حد قوله تعالى: {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطَّيَّروا بموسى ومن معه} [الأعراف: 131].ومعنى قوله: {وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم} تقدم بسطه عند قوله آنفًا {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} [الشورى: 30].والحكم الذي تضمنته جملة {فإن الإنسان كفور} هو المقصود من جملة الشرط كلها، ولذلك أعيد حرف التأكيد فيها بعد أن صُدِّرت به الجملة المشتملة على الشرط ليحيط التأكيد بكلتا الجملتين، وقد أفاد ذلك أن من عوارض صفة الإنسانية عروض الكفر بالله لها، لأن في طبع الإنسان تطلب مسالك النفع وسَدّ منافذ الضر مما ينجرّ إليه من أحوال لا تدخل بعض أسبابها في مقدوره، ومن طبعه النظر في الوسائل الواقية له بدلائل العقل الصحيح، ولكن من طبعه تحريك خياله في تصوير قوى تخوله تلك الأسباب فإذا أملى عليه خياله وجود قوى متصرفة في النواميس الخارجة عن مقدوره خالها ضالَّته المنشودة، فركن إليها وآمن بها وغاب عنه دليل الحق، إمّا لقصور تفكيره عن دركه وانعداممِ المرشد إليه، أو لغلبة هواه الذي يُملي عليه عصيانَ المرشدين من الأنبياء والرسل والحكماء الصالحين إذ لا يتبعهم إلا القليل من الناس ولا يهتدي بالعقل من تلقاء نفسه إلا الأقل مثلُ الحكماء، فغلب على نوع الإنسان الكفر بالله على الإيمان به كما بيناه آنفًا في قوله: {وإنا إذا أذقنا الإنسان منّا رحمة فرح بها}.ولذلك عقب هذا الحكم على النوع بقوله: {لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء} [الشورى: 49].ولم يخرج عن هذا العموم إلا الصَالِحُونَ من نوع الإنسان على تفاوت بينهم في كمال الخلق وقد استفيد خروجهم من آيات كثيرة كقوله: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [التين: 4 6].وقد شمل وصف {كفور} ما يشمل كفران النعمة وهما متلازمان في الأكثر. اهـ.
وقال قوم فيما حكى الطبري: لما كانوا يحشرون عميًا وكان نظرهم بعيون قلوبهم جعله طرفًا خفيًا، أي لا يبدو نظرهم، وفي هذا التأويل تكلف.وقال قتادة والسدي: المعنى يسارقون النظر لما كانوا من الهم وسوء الحال لا يستطيعون النظر بجميع العين، وإنما ينظرون من بعضها. قال: {من طرف خفي} أي قليل. ف (الطرف) هنا على هذا التأويل يحتمل أن يكون مصدرًا، أي يطرف طرفًا خفيًا. وقول: {الذين آمنوا} هو في يوم القيامة عندما عاينوا حال الكفار وسوء منقلبهم. وخسران الأهلين: يحتمل أن يراد به أهلوهم الذين كانوا في الدنيا، ويحتمل أن يراد به أهلوهم الذين كانوا يكونون لهم في الجنة أن لو دخلوها.وقوله تعالى: {ألا إن الظالمين في عذاب مقيم} يحتمل أن يكون من قول المؤمنين يومئذ حكاه الله عنهم، ويحتمل أن يكون استئنافًا من قول الله تعالى وإخباره لمحمد عليه السلام.{وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاء يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)}.قوله تعالى: {وما كان لهم من أولياء} إنحاء على الأصنام والأوثان التي أظهر الكفار ولايتها واعتقدت ذلك دينًا، المعنى: فما بالهم يوالون هذه التي لا تضر ولا تنفع، ولكن من يضلل الله {فما له من سبيل} هدى ونجاة، ثم أمر تعالى نبيه أن يأمرهم بالاستجابة لدعوة الله وشريعته، وحذرهم إتيان يوم القيامة الذي لا يرد أحد بعده إلى عمل، والذي لا ملجأ ولا منجا لأحد فيه إلا إلى العلم بالله تعالى والعمل الصالح في الدنيا، فأخبرهم أنه لا ملجأ لهم ولا نكير. والنكير مصدر بمعنى الإنكار وهو بمنزلة عديدة الحي ونحوه من المصادر، ويحتمل أن يكون من أبنية اسم الفاعل من نكر، وإن كان المعنى يبعد به، لأن نكر إنما معناه لم يميز وظن الأمر غير ما عهده.وقوله تعالى: {فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظًا} تأنيس لمحمد عليه السلام وإزالة لهمه بهم، وأعلمه أنه ليس عليه إلا البلاغ وتوصيل الحجة، ثم جاءت عبارة في باقي الآية هي بمنزلة ما يقول، والقوم قوم عتو وتناقض أخلاق واضطراب، إذا أذيقوا رحمة فرحوا بها وبطروا، وإن أصابت سيئة أي مصيبة تسوءهم في أجسامهم أي في نفوسهم، وذلك بذنوبهم وقبيح فعلهم فإنهم كفر عند ذلك غير صبر. وعبر بـ: {الإنسان} الذي هو اسم عام ليدخل في الآية والمذمة جميع الكفرة من المجاورين يومئذ ومن غيرهم، وجمع الضمير في قوله: {تصبهم} وهو عائد على لفظ {الإنسان} من حيث هو اسم جنس يعم كثيرًا. اهـ.
|